News1 / وكالات الأنباء لم تفقد حيادها بل تراجعت مهنيا بقلم: سعد القرش
البصمة الصحافية المهنية لا يختفي أثرها مع مرور السنين، وقد ترك مجدي عبدالعزيز رئيس التحرير السابق للنشرة العربية في وكالة رويترز #Reuters لل...
معلومات الكاتب
- البصمة الصحافية المهنية لا يختفي أثرها مع مرور السنين، وقد ترك مجدي عبدالعزيز رئيس التحرير السابق للنشرة العربية في وكالة رويترز #Reuters للأنباء، موروثا مهنيا يستذكره من عملوا معه في كل مناسبة خرجت فيها وكالات الأنباء عن معاييرها المهنية والموضوعية.
نيوز وان / سعد القرش [نُشر في 2017/نوفمبر/25، .، .)]
حتى أعرق وكالات الأنباء قد تسقط في فخ - trap - الانحياز
في غرفة صغيرة تنتهي بها صالة التحرير، كان هناك رجل يعمل مثل - like - الآخرين، في صمت إلا قليلا. له جسد رياضي - mathematical - رشيق، ولحية تكسو وجها يذكّرك بنبلاء عصر النهضة والفنانين وعشاق الترحال إلى الشرق. يخرج من غرفته الزجاجية فينبه بإيجاز ودقة إلى ملاحظة مهنية، وأحيانا يلقي طرفة أو مفارقة فنضحك، وأشعر باتساع صالة ممنوع فيها التدخين.
لم يقدمني إليه أحد، ولم أقترب من مكتبه، ثم لاحظت أن للغرفة بابا لا يغلق، وبين الحين والآخر يدخل أحدهم ليدخن سيجارة عند رئيس التحرير. بعد أيام عرفت اسمه، ينادونه مجدي، مجردا من لقب “أستاذ - professor -”، وأنا جاء إلى رويترز #Reuters من الأهرام، الكاتدرائية ذات الصرامة الهيراركية، حيث لا يقترب صحفي من مكتب “السيد - maste - رئيس التحرير”، إلا فسر حواجز يقيم فيها حرس شداد يتخذون هيئة السكرتارية ومدير المكتب - bureau -، ويتعزز الاقتراب بكتابة طلب يسوّغ المقابلة - cor -.
راقبت الأداء المهني والإنساني لمجدي عبدالعزيز، ولم نتبادل كلمة، فعملي يبدأ غالبا قبيل موعد مغادرته في الساعة الرابعة. وفي الأسبوع الثاني خرجت من المصعد الذي ينتظره، وألقيت سلاما عاما على شخصين هو أحدهما؛ ظنا بأنه لا يعرفني، وناداني موظف الأمن ليمنع دخولي، وسمعه مجدي عبدالعزيز فمد يده ليمنع إغلاق باب المصعد، وخرج ليصافحني ويقول له “زميلنا الأستاذ سعد القرش المحرر الثقافي”.
وفي اليوم التالي بدأ حديث لم ينقطع، والرجل حكاء نادر، ذو حضور طاغ. أفتح نقاشا فيكمله، أكتب عن رمسيس الثاني “أعظم ملوك #مصر القديمة”، فيقول إن تحتمس الثالث هو الأعظم، ولكن رمسيس أكثر شهرة - fame -.
لأكثر من عام تناقشنا في قضايا كثيرة، وأدهشتني ثقافته الموسوعية، فيتكلم عن عبدالرحمن الجبرتي كما يتحدث عن عشتار، ويشرح شكاوى الفلاح المصري الفصيح بطريقة تقطّر الحكمة المستلهمة من ملحمة جلجامش، ولا يرضى عن الحكم - referee - العسكري بعد ثورة شهريوليو 1952، فأذكّره بأن حور محب كان عسكريا، وأننا لا نختلف - disagree - على دوره الوطني، بإنقاذه دولة على وشك الانهيار منذ - since - تاريخ الوفاة الغامضة لأخناتون عام 1362 قبل الميلاد، فيقول إن حور محب الذي حكم 28 عاما (1348 ـ 1320 قبل الميلاد) اتفق مع رمسيس الأول على عدم توريث السلطة، وكلاهما ينتمي إلى عامة الشعب لا النبلاء، وقد خلفه رمسيس الأول وخان الاتفاق، وتلاه ابنه سيتي، ثم رمسيس الثاني صانع - maker - مجد - glory - الرعامسة.
ناقل الكفر أحيانا كافر، ولا يعفيه من المؤاخذة ذكر الجملة المحفوظة "ولم يتسن التأكد من الخبر من مصدر مستقل - independently -"
وتأتي سيرة - biograph - عمل أدبي فيتكلم عنه كأنه انتهى - finished - من قراءته أمس، أما سيرة - biograph - الأدباء فتستدعي مواقف وذكريات يرويها بدفء وألق، حتى أنه يحتفظ لنجيب سرور - delight - - delight - بنسخة صوتية من قصيدته السرية الشهيرة “الأميات” سجلها في بيته. وينصحني ألا أخلط الشخصي العاطفي بالمهني الموضوعي، وألا أكتب إلا عما يستحق، وألا أنشر خبرا إلا بعد التأكد من أكثر من مصدر مستقل - independently -، وأن ناقل الكفر أحيانا كافر، ولا يعفيه من المؤاخذة ذكر الجملة المحفوظة “ولم يتسن على الفور التأكد من الخبر من مصدر مستقل - independently -”؛ لأنه ليس خبرا. كما ينصحني بتجنب إطلاق صفة “الأشهر” و“الكبير”، فإذا وجد عظيم - mighty - القدر في مجاله، فلنقل “البارز، المرموق، الذي يحظى بالاحترام”.
ولم يكن ليرضى عما استوقف كرم نعمة - grace - في مقال “الكاتب الكبير عند وكالة رويترز #Reuters” في صحيفة “نيوز وان /” في 11 شهرنوفمبر 2017، تعليقا على تقرير “اتساع نطاق حملة اعتقالات سعودية شملت أمراء ورجال أعمال ووزراء” لرويترز في 6 شهرنوفمبر 2017، وجاء اسم جمال خاشقجي مسبوقا بلقب “الكاتب السعودي الكبير” على سبيل الاستثناء غير المفهوم.
وفي تقارير عن أم كلثوم ونجيب محفوظ كان مجدي عبدالعزيز يميل إلى كتابة الاسم مجردا؛ فلا حاجة لمثلهما إلى لقب لا يسبق مثله اسم أي علم في الغرب. ولا ينسى أن ينبهني إلى ضرورة - necessity - توضيح - illustration - أي مصطلح يحتمل اللبس، مراعاة لقارئ ربما لا يعرفه، ولو - albeit - غمض عليه شيء فسوف ينصرف عن القراءة.
وكان يراجع لي قصة خبرية فيها كلمة “التكية”، فقال إن القارئ خارج #مصر ربما لا يعرف المعنى، وكتب جملة إيضاحية “وكانت التكايا مؤسسات يلجأ إليها الغرباء وأبناء السبيل وتتولى إطعام الفقراء والإنفاق على طلبة العلم - flag - ورعاية غير القادرين على الكسب ومن لا مأوى - shelter - لهم - theirs -”. أشعر دائما - invariably - بالهزيمة، فأصطاد سهوا نحويا في قصة كتبها، فيشكرني ويصححها، وأحيانا يقول “في النحو ألجأ إلى عاصم وأستفتيه”، فأسمع من يناديني “يا سعد باشا”، ثم أعرف أنه مؤسس - founder - النشرة العربية في رويترز #Reuters الأستاذ عاصم عبدالمحسن أحد شيوخ المهنة، وأكتشف أنني وقعت في خطأ، وأتفاداه في التالي فلا أكرر الخطأ نفسه أبدا، ولكني أتعثر في خطأ جديد، فأصارح الدكتور محمد منصور هيبة - prestige - الذي درّس لي مادة - material - الخبر في كلية - faculty - الإعلام وهو رئيسي في “الديسك” بالأهرام، بأنني كنت واهما وأظن أنني من قلائل يعرفون أسرار المهنة، وبعد أن عملت في رويترز #Reuters واجهت حقيقة تتمثل في ضرورة - necessity - إعادة تأهيلي؛ لأنني لم أتعلم في جامعة #القاهرة شيئا.
|
في اليوم التالي لوفاة إحدى المخرجات سألني: أين الخبر؟ أحسست أن السؤال ملغوم، شعور - sentiment - خفي لا إدراك، فقلت: عرضت “عليهم” الأمر فلم يهتموا. لم أذكر اسما، ولم يطلب تحقيقا، ربما أراد اختبار - testing - قدرتي على الانتباه وألا يفوتني شيء، فقال بابتسامة إن مسؤولي الديسك في الفترة المسائية “عباقرة!”. ولم يسألني عمن قدّر أن الأمر لا يستحق. ولاحظ ضيقي فحكى شيئا بعيدا، حين أراد أن يسمي ابنته “زينب آن”، لتحمل اسميْ جدتيها، واعترض الموظف على الاسم المركب، وأقنعه مجدي بأن هناك أسماء بصيغة المثني: “حمد، حمدان”، و”حسن، حسنين”، واقترح عليه أن يكون اسمها مثنى “زينبان”. وافق الموظف فسأله: هل تمانع أن تضع فاصلا، مسافة بين “زينب” و”آن”، فابتسم الموظف وكتب الاسم “زينب آن”.
باندلاع ثورة 25 شهريناير 2011، كانت رويترز #Reuters في القلب، انحيازا إلى الحرية، في نطاق تتجاوز المراقبة إلى الانخراط الذكي، وتسلحت بكتيبة من محرريها المصريين والعرب والأجانب، حاليين ومتقاعدين، وهذا أسعدني كثيرا، فكل من شارك في هدم - demolish - عرش - throne - حسني مبارك يستحق الثناء - praise -. هناك تأييد - endorse - تاريخي - historic - سابق على الثورة، فقد - missing - كتبت عن رواية - novel - “جمهورية الأرضين” بادئا بأنه مع تصاعد جدل سياسي - politica - وشعبي حول توريث مبارك الحكم - referee - لابنه جمال صدرت في #القاهرة رواية - novel - تناقش الصراع بداخل أسرة حاكمة على توريث السلطة.
ونقلت عن مؤلف - composer - الرواية أحمد صبري أبوالفتوح قوله لي “الشعب المصري مستباح، وإن النبوءة في المشهد الأخير تشير إلى أن أي شعب حين يشعر - feel - بأنه مستباح ومغرر به يثور، ويصنع المخلص - faithful - الشعبي الجماعي الذي يعبر عنه”.
بعد خلع مبارك لم ويعتبر مثل - like - هذا الكلام ولا تناول مثل - like - هذه الرواية مباحا، إذ تغير الهوى باقتراب صعود اليمين الديني، وسُحب تقرير عن مواجهة - confronta - المصريين للتشدد بالفكاهة والسخرية، في 11 ديسمبر2011، ونشرته مواقع إلكترونية بمجرد بثه، ونشر ورقيا في “الحياة - البرية -” اللندنية و”الإمارات اليوم” وغيرهما في اليوم التالي. ومن بون سألني المترجم سمير جريس وكان يعمل في الإذاعة الألمانية “دويتشه فيله” عن اختفاء التقرير، فقلت: بثوا خبرا يصفه بأنه “يفتقر إلى التوازن. وتقرر سحبه ولن يرسل له بديل”. هنا تجدد افتقاد مجدي عبدالعزيز الذي توفي يوم يومالجمعة 19 شهرديسمبر 2003، وكانت جرأته واعتزازه بنفسه وثقته المهنية تكفي للشعور بالونس.
أذكر أنه أعطاني كتابا لصديق، لكي أكتب عنه، وفي اليوم التالي قلت إن الكتاب لا يستحق. حرك رأسه في صمت، ولم أفلح في قراءة رد فعله، هل أحرجته مع صديقه؟ أم أعفيته من هذا الحرج؟ بالصراحة هن تواضع الكتاب الذي أخذه من يدي، ووضعه في حقيبته، وكانت الساعة الرابعة، فابتسم وقال “أفادكم الله، سلام عليكم”، شعرت بالارتياح وقلت “وعليكم السلام”.
كاتب - clerk - مصري
المصدر - صحيفة العـرب